كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال} قرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو {تسير الجبال} بالتاء المثناة الفوقية وفتح الياء المشددة منقوله: {تسير} مبنيًا للمفعول. و{الجبال} بالرفع نائب فاعل {نسير} والفاعل المحذوف ضمير يعود إلى الله جل وعلا. وقرأه باقي السبعة {نسير} بالنون وكسر الياس المشددة مبنيًا للفاعل، و{الجبال} منصوب مفعول به، والنون في قوله: {نسير} للتعظيم.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} البروز: الظهور. أي ترى الأرض ظاهر منكشفة لذهاب الجبال والظراب والآكام، والشجر والعمارات التي كانت عليها. وهذا المعنى الذي ذكره هنا- بينه أيضًا في غير هذا الموضع. كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لاَّ ترى فِيهَا عِوَجًا ولا أَمْتًا} [طه: 105-107]. وأقوال العلماء في معنى ذلك راجعة إلى شيء واحد، وهو أنها أرض مستوية لا نبات فيها، ولا بناء ولا ارتفاع ولا انحدار. وقول من قال: إن معنى {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} أي بارزًا ما كان في بطنها من الأموات والكنوز- بعيدًا جدًا كما ترى. وبروز ما في بطنها من الأموات والكنوز دلت عليه آيات أخر. كقوله تعالى: {وَإِذَا الأرض مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق: 4]، وقوله تعالى: {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القبور وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور} [العاديات: 9-10]، وقوله: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2]، وقوله: {وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ} [الانفطار: 4].
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وحشرناهم} أي جمعناهم للحساب والجزاء. وهذا الجم المعبر عنه بالحشر هنا- جاء مذكورًا في آيات أخر، كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الواقعة: 49-50]، وقوله تعالى: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} [النساء: 87] الآية، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع ذَلِكَ يَوْمُ التغابن} [التغابن: 9]، وقوله تعالى: {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103]. وقوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} [الأنعام: 22] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وبين في مواضع آخر- أن هذا الحشر المذكور شامل للعقلاء وغيرهم من أجناس المخلوقات، وهوقوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38].
وقوله في هذه الآية الكريمة: {فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} أي لم نترك. والمغادرة: الترك. ومنه الغدر. لأنه ترك الوفاء والأمانة. وسمي الغدير من الماء غديرًا، لأن السيل ذهب وتركه. ومن المغادرة بمعنى الترك قول عنترة في مطلع معلقته:
هل غادر الشعراء من متردم ** أم هل عرفت الدار بعد توهم

وقوله أيضًا:
غادرته متعفرًا أوصاله ** والقوم بين مجرح ومجدل

وما ذكره في هذه الآية الكريمة- من أنه حشرهم ولم يترك منهم أحدًا- جاء مبينًا في مواضع أخر، كقوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} [الأنعام: 22] الآية، ونحوها من الآيات، لأن حشرهم جميعًا هومعنى أنه لم يغادر منهم أحدًا.
قوله تعالى: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفًَّا}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة- أن الخلائق يوم القيامة يعرضومن على ؤربهم صفًا، أي في حال كونهم مصطفين. قال بعض العلماء: صفًا بعد صف. وقال بعضهم: صفًا واحدًا وقال بعض العلماء {صفًا} أي جميعًا، كقوله: {ثُمَّ ائتوا صَفًّا} [طه: 64] علىلقول فيه بذلك. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: وخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن مندة في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل- أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع: يا عبادي، أن الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين. يا عبادي، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنونز أحضروا حجتكم ويسروا جوابًا فإنكم مسؤولون محاسبون. يا ملائكتي، أقيموا عبادي صفوفًا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب» قلت: هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية. ولم يذكره كثير من المفسرين، وقد كتبناه في كتاب التذكرة ومنه نقلناه، والحمد لله. انتهى كلام القرطبي. والحديث المذكور يدل على أن {صفا} في هذه الآية يراد به صفوفًا. كقوله في الملائكة: {وَجَاءَ رَبُّكَ والملك صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]. ونظير الآية قوله في الملائكة: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38].
فإذا علمت أن الله جل وعلا ذكر في هذه الآية حالًا من أحوال عرض الخلائق عليه يوم القيامة- فاعلم أنه بين في مواضع أخر أشياء أخر من أحوال عرضهم عليه. كقوله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18]. وبين في مواضع أخر ما يلاقيه الكفار، وما يقال لهم عند ذلك العرض على ربهم. كقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أولئك يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} [هود: 18-19].
وقوله في هذه الآية الكريمة {صفًا} أصله مصدر، والمصدر المنكر قد يكون حالًا على حد قوله في الخلاصة:
ومصدر منكر حالًا يقع ** بكثر كبغتة زيد طلع

قوله تعالى: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية.
هذا الكلام مقول قول محذوف. وحذف القول مطرد في اللغة العربية، كثير جدًا في القرآن الكريم العظيم. والمعنى: يقال لهم يوم القيامة لقد جئتمونا، أي والله لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة، أي حفارة عراة غرلًا، أي غير مختونين، كل واحد منكم فرد لا مال معه ولا ولد، ولا خدم ولا حشم.
وقد أوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94]، وقوله: {لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْدًا} [مريم: 94-95] وقوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَآ} [الأنبياء: 104] الآية، وقوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] تقدم.
وقوله فيه هذه الآية الكريمة: {كما خلقناكم} ما مصدرية، والمصدر المنسبك منها ومن صلتها نعت لمصدر محذوف على حذف مضاف. وإيضاح تقريره: ولقد جئتمونا كما خلقناكم، أي مجيئًا مثل مجيء خلقكم، أي حفاة عراة غرلًا كما جاء في الحديث، وخالين من المال والولد. وهذا الأعراب هو مقتضى كلام أبي حيان في البحر. ويظهر لي أنه يجوز إعرابه أيضًا حالًا، أي جئتمونا في حال كونكم مشابهين لكم في حالتكم الأولى، لأن التشبيه يؤول بمعنى الوصف، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
ويكثر الجمود في سعر وفي ** مبدي تأول بلا تكلف

كبعه مدا بكذا يدًا بيد ** وكر زيد أسدًا أي كأسد

فقوله: وكر زيد أسدًا أي كأسد مثال لمبدي التأول، لأنه في تأويل كر في حال كونه مشابهًا للأسد كما ذكرنا- واعلم أن حذف القول وإثبات مقوله مطرد في اللغة العربية، وكثير في القرآن العظيم كما ذكرنها آنفًا. لكن عكسه وهو إثبات القول وحذف مقوله قليل جدًا، ومنه قول الشاعر:
لنحن الألى قلتم فأني ملئتم ** برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا

لأن المراد لنحن الألى قلتم نقاتلهم، فحذف جملة نقاتلهم التي هي مقول القول. وقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا} [الأنعام: 94] عبر فيه بالماضي وأراد المستقبل، لأن تحقيق وقوع ذلك ينزله منزلة الواقع بالفعل. والتعبير بصيغة الماضي عن المستقبل لما ذكرنا كثيرًا جدًا في القرآن العظيم، ومنه قوله هنا: {وَحَشَرْنَاهُمْ} [الكهف: 47]، وقوله: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ} [الكهف: 48]، وقوله: {}. ومنه قوله: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1]، وقوله: {وَنُفِخَ فِي الصور} [الكهف: 99]، وقوله: {وَسِيقَ الذين كفروا} [الزمر: 71]، وقوله: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ} [الزمر: 73] ونحو ذلك كثير في القرآن لما ذكرنا قوله تعالى: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَن لَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة- أن الكفار زعموا أن الله لن يجعل لهم موعدًا. والموعد يشمل زمان الوعد ومكانه. والمعنى: أنهم زعموا أ، الله لم يجعل وقتًا ولا مكانًا لإنجاز ما وعدهم على ألسنة رسله من البعث والجزاء والحساب.. وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من إنكارهم البعث- جاء مبينًا في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ} [التغابن: 7] الآية. وقوله عنهم: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29]، {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} [الدخان: 35] ونحو ذلك من الآيات.
وقد بين الله تعالى كذبهم في إنكارهم للبعث في آيات كثيرة. كقوله في هذه السورة الكريمة:
{بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاٍ} [الكهف: 58]، وقوله: {قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن: 7] الآية، وقوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ بلى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [النحل: 38]، وقوله: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] والآيات بمثل هذا كثيرة جدًا. وقد قدمنا في سورة: البقرة وسورة: النحل- البراهين التي يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {بل زعمتم} إضراب انتقالي من خبر إلى خبر آخر، لا إبطالي كما هو واضح. وأن في قوله: {أَن لَّن نَّجْعَلَ}. مخففة من الثقيلة، وجملة الفعل الذي بعدها خبرها، والاسم ضمير الشأن المحذوف. على حد قوله في الخلاصة:
وإن تخفف أن

البيت.. والفعل المذكور متصرف وليس بدعاء، ففصل بينه وبينها بالنفي. على حد قوله في الخلاصة:
وإن يكن فعلًا ولم يكن دعا

البيتين.
قوله تعالى: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكتاب يوضع يوم القيامة. والمراد بالكتاب: جنس الكتب. فيشمل جميع الصحف التي كتبت فيها أعمال المكلفين في دار الدنيا. وأن المجرمين يشفقون مما فيه. أي يخافون منه، وأنهم يقولون {ياويلتنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ ُ}. أي لا يترك {صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} من المعاصي التي عملنا {إِلاَّ أَحْصَاهَا} أي ضبطها وحصرها.
وهذا المعنى الذي دت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في مواضع أخر. كقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقرأ كَتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13-14] وبين أن بعضهم يؤتى كتابه بيمينه. وبعضهم يؤتاه بشماله. وبعضهم يؤتاه وراء ظهره. قال: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 25] الآية، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ويصلى سَعِيرًا} [الانشقاق: 7-12] وقد قدمنا هذا في سورة: بني إسرائيل. وما ذكره من وضع الكتاب هنا ذكره في الزمر في قوله: {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهداء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق} [الزمر: 69] الآية.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {فترى المجرمين} تدم معنى مثله في الكلام على قوله: {وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت} [الكهف: 17] الآية. والمجرمون: جمع المجرم، وهم اسم فاعل الإجرام. والإجرام: ارتكاب الجريمة، وهي الذنب العظيم الذي يستحق صاحبة عليه النكال. ومعنى كونهم {مشفقين مما فيه}: أنهم خائفون مما في ذلك الكتاب من كشف أعمالهم السيئة، وفضيحتهم على رؤوس الأشهاد، وما يترتب على ذلك العذاب السرمدي. وقولهم {ياويلتنا} الويلة: الهلكة، وقد نادوا هلتكهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات فقالوا: يا ويلتنا! أي يا هلكتنا احضري فهذا أوان حضورك! وقال أبو حيان في البحر: المراد من بحضرتهم: كلا أنهم قالوا: يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا. وكذا ما جاء من نداء ما لا يعقل كقوله: {يا أسفى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84]، {يا حسرتى على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} [الزمر: 56]، {ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [يس: 52]، وقوله: يا عجبًا لهذه الفليقة، فيا عجبًا من رحلها المتحمل، إنما يراد به تنبيه من يعقل بالتعجب مما حل بالمنادى انتهى كلام أبي حيان. وحاصل ما ذكره: أن أداة النداء في قوله: {ياويلتنا} ينادة لها محذوف، وأن ما بعدها مفعول فعل محذوف، والتقدير كما ذكره: يما من يحضرتنا انظروا هلكتنا. ومعلوم أن حذف المنادى مع إثبات أداة النداء، ودلالة القرينة على المنادى المحذوف مسموع في كلام العرب.
منه قول عنترة في معلقته:
يا شاة ما قنص لمن حلت له ** حرمت على وليتها لم تحرم

يعنيك يا قوم انظروا شاة قنص. وقول ذي الرمة:
ألا يا اسلمي يا دارمي على البلا ** ولا زال منهلا بجرعائك القطر

يعني: يا هذه أسلمي. وقوله تعالى: {مَا لهذا الكتاب} أي أي شيء ثبت لهذا الكتاب {لا يغادر} أي لا يترك {صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} أي من المعاصي. وقول من قال: الصغير القبلة، والكبيرة الزنى، ونحو ذلك من الأقوال في الآية- إما هو على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر. وللعلماء اختلاف كثير في تعريف الكبيرة معروف في الأصول. وقد صرح تعالى بأن النمهيات منها كبائر. ويفهم من ذلك أن منها صغائر. وبين أن اجتناب الكبائر يكفر الله به الصغائر. وذلك في قوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] الآية. ويروى عن الفضيل بن عياض في هذه الآية أنه قال: جوا من الصغائر قبل الكبائر. وجملة: {لا يغادر} حال من {الكتاب}.
تنبيه:
هذه الآية الكريمه يفهم منها- أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. لأنهم وجدوا في كتاب أعمالهم صغائر ذنوبهم محصاة عليهم، فلو كانوا غير مخاطبين بما لما سجلت عليهم في كتاب أعمالهم. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة- أنهم في يوم القيامة يجدون أعمالهم التي عملوها في الدنيا حاضرة محصاة عليهم. وأوضح هذا أيضًا في غير هذا الموضع، كقوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًَا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]، وقوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} [يونس: 30] الآية، وقوله: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13]، وقوله: {يَوْمَ تبلى السرآئر} [الطارق: 9] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة- أنه لايظلم أحدًا، فلا ينقص من حسنات محسن، ولا يزيد من سييئات مسيئ، ولا يعاقب على غير ذنب.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44]، وقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، وقوله تعالى: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] وقوله: {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 33]، وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118] والآيات بمثل ذلك كثيرة. اهـ.